سورة الأحقاف - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأحقاف)


        


{حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6)}.
التفسير:
قوله تعالى: {حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}.
مضى تفسير هاتين الآيتين في أول السورة السابقة: (الجاثية).
قوله تعالى: {ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ}.
أي أن خلق السموات والأرض وما بينهما، كان خلقا قائما على الحق، متلبسا به، فما خلق شيء في هذا الوجود إلا بحكمة وتقد. وما خلق شيء عبثا أو لهوا، كما يقول سبحانه: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ}.
فكل ذرة في هذا الوجود، لها مكانها فيه، ولها وظيفتها التي تؤديها لانتظام نظامه، واتساق حركته: {ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ} [3: الملك].
وقوله تعالى: {وَأَجَلٍ مُسَمًّى} معطوف على قوله تعالى: {بِالْحَقِّ} أي ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وبتقدير أجل مسمّى لكل مخلوق خلق.. فكل مخلوق خلق لغاية، وحكمة.. وكل مخلوق له أجل ينتهى به دوره، كما يقول سبحانه وتعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} [49: يونس] وكما يقول سبحانه: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ} [38: الرعد].
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ}.
جملة حالية، تكشف عن موقف بعض مخلوقات اللّه التي خرجت عن سنن الحق الذي قام عليه الوجود كله.. فهؤلاء الذين كفروا، لم يقفوا عند حدّ كفرهم، وانحرافهم عن جادة الطريق، بل إنهم- مع كفرهم وضلالهم- لم يقبلوا دعوة الهدى، ولم يستمعوا إلى هذا النذير، الذي جاء ينذرهم ويحذرهم عاقبة كفرهم وضلالهم.
وفى الجمع بين كتاب اللّه المنزّل من اللّه العزيز الحكيم، وبين السموات والأرض والحق الذي خلقا به- في هذا الجمع، إشارة إلى أن آيات اللّه القرآنية، وآياته الكونية، على سواء، في أنها جميعا من الحق، وأن ما يتلوه أصحاب الألباب من صحف الكون، هو شبيه بما يتلونه من كتاب اللّه، وآياته.. فمن لم تنفذ العبرة والعظة إلى قلبه عن طريق السمع، بما يتلى عليه من آيات اللّه وكلماته كان له من نظره في آيات اللّه الكونية، ما يفتح له الطريق إلى اللّه.. أما من أغمض عينيه عن آيات اللّه الكونية، وأصم أذنيه، عن آيات اللّه القرآنية فهيهات أن تنفذ إلى قلبه شعاعة من هدى، أو قبسة من نور.
قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}.
المراد بالاستفهام في قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟} هو إلفات المشركين إلى هؤلاء المعبودين الذين يعبدونهم من دون اللّه، وإعادة النظر إليهم، نظرا فاحصا محقّقا، وذلك ليجيبوا على ما يسألون عنه في شأن هؤلاء المعبودين.. وفى هذا إشارة إلى أن هؤلاء المشركين، كانوا في غفلة عن معبوداتهم تلك، وأنهم إنما يعبدونها عن تقليد، بلا وعى أو تفكير.. ولهذا طلب إليهم أن يعيدوا النظر في معبوداتهم تلك، وأن يتحققوا من صفاتها، وما تملك بين أيديها من قوّى.
وقوله تعالى: {أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ}.
هو السؤال الذي يطلب إلى المشركين الإجابة عليه، بعد أن استعدوا لهذا الامتحان، بالنظر إلى معبوداتهم، والكشف عن حقيقتها.
والسؤال هو: {ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ}؟ أي ماذا لهؤلاء المعبودين من مخلوقات في الأرض؟ وأىّ شيء خلقوه منها؟ {أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ؟} إنه لا شيء لهم فيما على هذه الأرض من مخلوقات، كبر شأنها أم صغر.. إنهم لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له.. كما يقول سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ}.
(73: الحج).
وقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ} هو إضراب عن السؤال السابق، بعد أن عرف الجواب عنه، وهو الصمت والوجوم.. وإنشاء لسؤال آخر، فربما وجد المشركون جوابا له، بعد أن عجزوا عن الإجابة عن السؤال الأول.
{أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ؟} أي إذا لم يكن لهؤلاء المعبودين شيء مما خلق اللّه سبحانه وتعالى في الأرض من مخلوقات.. فهل لهم شركة مع اللّه فيما خلق في السموات؟ وإنه لا جواب على هذا إلا العجز الصامت، والوجوم المطبق!.
فإن كان هناك من يكابر، ويأبى إلا أن يجعل لهذه المعبودات سلطانا في السموات أو في الأرض، فليأت بكتاب من عند اللّه من الكتب التي سبقت القرآن الكريم، وتقدمت نزوله.. فإن لم يكن كتاب فليكن {أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} أي أثر ولو قليل من علم، مصدره أهل الذكر والعلم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ} [8: الحج].
وفى السؤال عما للمعبودين في الأرض بلفظ الخلق وعما لهم في السموات بلفظ الشرك في هذا مراعاة لمقتضى الحال التي عليها المشركون مع آلهتهم.. حيث يبدو لهم من معبوداتهم أن لها تدبيرا وتصريفا مستقلا في شئون الحياة.. كما كان فرعون يدّعى أنه بألوهيته، هو الذي يمد قومه بأسباب الحياة، وما ينزل عليهم من مطر، أو ينبت من نبات.. وكما كان يدهى النمرود أنه يحيى ويميت، وفى هذا يقول اللّه تعالى: {إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [258: البقرة].
أما العالم العلوي، فإن دعوى خلق شيء من عوالمه، أكبر من أن يتسع لها ادعاء، على حين يمكن أن تدّعى الشركة، وأن ينسج لها ثوب ملفق من الوهم والخيال.. حيث لا يطالب الشريك بالتصريف في شىء، منفردا عن شريكه.
قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ}.
هو تعقيب على هذا الموقف الذي وقف منه المشركون مع معبوداتهم، موقف امتحان وابتلاء.. وقد تكشف لهم من هذا الامتحان أن معبوداتهم تلك، لا تملك شيئا من هذا الوجود في أرضه أو سمواته.. وإذن فما أضل من يعبدها، ويرجو العون منها.. إنها لا تستجيب لمن يدعوها، ولو امتد دعاؤه، وطال وقوفه بين يديها إلى يوم القيامة.. إنها لا تملك شيئا، ولن تملكه، حالا أو مستقبلا.. وطلب شيء ممن لا يملك شيئا، هو السفه الجهول، والضلال المبين.
وقوله تعالى: {وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ} جملة حالية، تكشف عن غفلة هذه المعبودات، عن دعاء من يدعونها.. إنها لا تسمع، ولو سمعت ما استجابت، لأنها في قيد العجز المطلق، الذي لا تملك معه من أمر اللّه في عباده شيئا.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا} [56: الإسراء] ويقول سبحانه:
{إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ} [14: فاطر].
وفى التعبير عن عدم الاستجابة بالغفلة، إشارة إلى استخفاف هذه المعبودات بعابديها، وأنها لا تلتفت إليهم، ولا تأبه لدعائهم، حتى ولو كان من شأنها أن تسمع وتعقل.
قوله تعالى: {وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ}.
أي وليس هذا الذي تلقى به هذه المعبودات عابديها، من استخفاف بهم، وشغل عنهم- ليس هذا كل ما هنالك.. بل إن لهذا الحساب بقية في الآخرة، حيث تنتظر هذه المعبودات من عبدوها في موقف الحساب والجزاء، وهناك تقف منهم موقف العداوة والخصومة، حيث تشهد عليهم بأنهم كانوا كافرين باللّه، مفترين عليها بتأليهها، وعبادتها، وجعلها أندادا للّه سبحانه.. وهذه جريمة شنيعة، ألصقها هؤلاء المشركون بتلك المعبودات، وإن من حق هذه المعبودات أن تطلب القصاص من عابديها، الذين عرضوها في معرض البهتان والضلال.


{وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ}.
أي أن هؤلاء المشركين الذين انكشف لهم ما عليه آلهتهم التي يعبدونها من دون اللّه، من ضعف وعجز عن أن تملك لهم ضرا أو نفعا- لم يكن لهم من العقل والرأى ما يحولهم عن موقفهم هذا الذي جمدوا عليه مع آلهتهم، وحتى إنهم إذا تليت عليهم آيات اللّه بينة بيان الصبح، مشرقة إشراق الضّحى، خدعوا أنفسهم عنها، وقالوا هذا سحر مبين.. إذ لم يستطيعوا أن ينكروا سلطان هذه الآيات، أو يدفعوا حجتها القائمة عليهم، إذ كان سلطانها أكبر من أن يدفع، وكانت حجتها أقوى من أن ترد- فكان هروبهم منها وفرارهم من بين يديها، مستندا إلى هذا الادعاء الباطل، بأن هذه الآيات من السحر المبين، الذي يملك محمد من أعاجيبه وحيله، مالا يملكون.
وفى إظهار الضمير في {عليهم} {وآياتنا} كشف للحقيقة المنطوية فيهما.. فضمير المشركين، يطوى تحت كيانه وجها منكرا من وجوه الناس، هم {الَّذِينَ كَفَرُوا}.
وضمير الآيات البينات، يضم تحت جناحيه، الحق المبين.
وفى قوله تعالى: {قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ} إشارة إلى أن هذا الحق الذي طلع على المشركين من تلك الآيات البينات التي تليت عليهم- كان من الظهور والبيان بحيث يرونه رأى العين، حتى إنه ليتمثل لهم منه كائن شخصى، عاقل، يجىء إليهم، ويخاطبونه، ويشيرون إليه قائلين {هذا سِحْرٌ مُبِينٌ}.
قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ.. قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
هو إضراب عن مقولتهم عن القرآن، هذا سحر مبين وعدول عن هذا القول إلى قول آخر، إذ لم يطمئنوا إلى هذا القول في القرآن.. فهو آيات بينة المعنى، واضحة القصد، وكلمات محددة الدلالة، صريحة المعنى، فمن أين يكون بينها وبين السحر جامعة تجمعها به، والعهد بالسحر، أنه خفايا وأسرار، تطلع من وراء ستر محجبة، لا يعرف الطريق إليها إلا أصحابها، الذين يخيّلون للناس منها ما يخيلون.
فالقول بأن هذا القرآن مفترى على اللّه أقرب إلى القبول في باب الجدل والمراء من القول بأنه سحر.. ولكن هذا القول لا يلبث أن ينكشف زيفه وبطلانه إذا وضع موضع الاختيار، إذا قيل لقائليه: ما لكم لا تأتون بعشر سور مثله مفتريات، أو بسورة واحدة مفتراة؟ وماذا يحول بينكم وبين الافتراء، والمجال فيه متسع فسيح لمن يشاء أن يرد موارده؟.
وقد ردّ اللّه سبحانه وتعالى على مقولتهم تلك، في غير هذا الموضع من القرآن الكريم، فقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ} [13: هود].
وهنا، في هذا الموقف يلقاهم، رد آخر في قوله تعالى: {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً}.
وهذا الرد يتجه إلى الافتراء من حيث هو كذب على اللّه، وعدوان عليه سبحانه وتعالى، وأن من افترى على اللّه فقد تعرض لسخطه ونقمته، وأنه لا أحد يدفع عن المفترى على اللّه سخط اللّه، وعذاب اللّه! فلم يفترى النبي على اللّه، ولم يعرض نفسه لهذا البلاء؟
وما الثمن الذي أخذه من وراء هذه المجازفة؟.
وقوله تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ} هو تهديد للمشركين بقولهم هذا الذي يقولونه في كلمات اللّه وآياته.
وأفاض في الحديث: توسع فيه، وأكثر منه.. حتى يجاوز الحدود، ويخرج عنها، كما يفيض السائل من الإناء، ويسيل في كل مسيل.
وإفاضة القوم في القرآن، هو مقولاتهم الكثيرة فيه، وهى مقولات باطلة لا حدود لها، وهذا يعنى أن مقولاتهم في القرآن مقولات باطلة، تتسع لكل قول.. ولو أنهم قالوا قولا حقا، لما كان لهم إلا قولة واحدة، هى أن هذا القرآن من عند اللّه، وأنه الحق من ربهم.
وقوله تعالى: {كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}.
تهديد ووعيد آخر للمشركين، وأنهم في موضع الحساب والمسألة من اللّه تعالى، وأنهم مأخوذون بما يقولون من مفتريات على آيات اللّه، وعلى رسول اللّه.
وقوله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} دعوة إلى هؤلاء المشركين أن ينظروا إلى أنفسهم، وأن يطلبوا النجاة من هذا الموقف المهلك الذي هم فيه، وأن يفرّوا إلى اللّه، وأن يطلبوا المغفرة والرحمة من رب غفور رحيم.
وفى هذه الدعوة- إشارة إلى أن الرسول الكريم، إنما جاء رحمة للناس من ربه، وأنّ ربه غفور رحيم، يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات.. وأن هؤلاء المشركين في معرض المغفرة والرحمة، إذا هم طلبوا مغفرة اللّه ورحمته.
قوله تعالى: {قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ}.
هو دعوة أخرى إلى هؤلاء المشركين، أن يعيدوا النظر في هذا النبىّ، وفيما يدعوهم إليه.. إنه بشر مثلهم، شأنه في هذا شأن المرسلين من قبله إلى أقوامهم.. وهو إنما يبلغ ما يتلقاه من ربه، شأنه في هذا أيضا شأن كل رسول قبله.. فهو ليس بدعا من الرسل، أي ليس على صورة غريبة، خارجة عما جاء عليه الرسل من قبله، سواء في شخصه، أو في مضمون ما أرسل به.. فماذا ينكر القوم منه؟
وفى قوله تعالى: {وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ}.
هو تقرير لبشرية الرسول، وأنه ليس إلا عبدا من عباد اللّه، لا يعلم الغيب، ولا يملك لنفسه، ولا لأحد ضرّا ولا نفعا، إلا ما شاء اللّه.
{قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [188: الأعراف].
قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
هو تحريض للمشركين من قريش على أن يسبقوا إلى هذا الخير الذي يدعوهم النبىّ إليه، وأن يسارعوا إلى أخذ حظهم منه، قبل أن يسبقهم إليه غيرهم من أهل الكتاب الذين يعرفون أنه الحقّ من ربهم، وأن بعضا منهم- ممن لا يستبد به الحسد، ولا تغلبه شقوته- سيؤمن بهذا القرآن، ويهتدى بهديه.
وتحرير معنى الآية.. ماذا يكون موقفكم أيها المشركون، إذا كان هذا القرآن من عند اللّه، وقد كفرتم به، على حين أن بعضا من اليهود قد عرف وجه الحق فيه، ورأى من آيات الحقّ منه، مثل ما رأى في الكتاب الذي معه، فآمن باللّه، وصدق بهذا القرآن واستكبرتم أنتم حين عرفتم الحقّ ولم تؤمنوا- ماذا يكون موقفكم، وقد فاتكم هذا الخير الذي أعطيتموه ظهركم؟
ألا يكون منكم إلّا الانطلاق في هذا الضلال الذي أنتم فيه إلى غاياته؟ إن ذلك عدوان منكم على الحق، وظلم مبين منكم لأنفسكم، واللّه لا يهدى القوم الظالمين، الذين يرون الحقّ، ويأبون أن يأخذوا طريقهم معه! هذا، وقد كاد يكون إجماع من المفسرين على أن هذه الآية قد نزلت في عبد اللّه ابن سلام، وهو من اليهود الذين دخلوا في الإسلام، ويأتون على هذا بأخبار ومرويات من الأحاديث في كتب الصحاح كالبخارى ومسلم، وغيرهما.
والسورة مكية، وليس هناك شاهد قوىّ يشهد بأن هذه الآية مدنية- كما يقول بذلك الذين يذكرون سبب نزولها- بل إن هناك أكثر من شاهد بأنها مكية.
فأولا: أن السياق متصل، بحيث يجعل الآية في مواجهة هؤلاء المشركين الذين يخاجون النبىّ ويرمونه بالكذب والافتراء وفى هذه المواجهة يرى المشركون أن موقفهم من الرسول، ومن القرآن، سينتهى بهم إلى أن يسبقهم أهل الكتاب إلى هذا الرسول الذي كانوا يتمنون على للّه أن يكون لهم كتاب مثل أهل الكتاب.. وكانوا يقولون ما حكاه القرآن عنهم: {لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ} [157: الأنعام] وها هم أولاء قد جاءهم الكتاب، ويوشك أن يفلت من أيديهم وثانيا: أن في هذه لآية المكية، دعوة غير مباشرة إلى أهل الكتاب أن يؤمنوا بهذا الرسول، وبالكتاب الذي أنزل إليه من ربه وفى هذه الدعوة إرهاص بالمواجهة التي سيواجه فيها الرسول والقرآن أهل الكتاب، فيما بعد، وهذا أسلوب من أساليب القرآن في دعوة أهل الكتاب إليه، وهو في الطريق إليهم، قبل أن يلقاهم لقاء مباشرا وإذن فليس هناك داعية إلى القول بأن هذه الآية مدنية، وبالتالى أنها نزلت في عبد اللّه بن سلام أو غيره.. وإن الذي ينظر في الأحاديث والمرويات، التي ذكرت في هذا المقام، يرى فيها اختلافا، وتضاربا، بحيث ينقض بعضها بعضها، ويهدم بعضها بعضا مما يجعل مجاوزتها والعدول عنها، أولى من الوقوف عندها، وأخذ شيء منها.
قوله تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ}.
أي ومن الشّبه والضلالات التي أضلت المشركين عن الإيمان باللّه والاستجابة للرسول- أن كثيرا من الذين سبقوهم إلى الإيمان باللّه، والاستجابة للرسول، كانوا من الفقراء، والمستضعفين، كبلال، وعمار، وصهيب، وغيرهم ممن سبقوا إلى الإسلام.. وهذا عند المشركين من الأدلة الناطقة بأن هذا الذي يدعو إليه محمد، ليس مما تهفو إليه نفوس أصحاب الجاه، والمنزلة.. في الناس، وأنه لو كان كذلك لما سبق إليه الأرقاء والمستضعفون فيهم وكيف.. وهم السابقون إلى عايات السيادة والمجد، يسبقهم عبيدهم وإماؤهم إلى أمر، ثم يكونون هم وراءهم، يأخذون مكانهم في الصفوف المتأخرة فيه؟ وإذن فهذا الذي يدعو إليه محمد ليس إلا إفكا مفترى، ولهذا كان المنخدعون به، هم أولئك الأرقاء والأدلاء من بينهم وهكذا تأمرهم أحلامهم، وتسوّل لهم أنفسهم!! قوله تعالى: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ}.
هو رد على مقولة المشركين في القرآن بأنه إفك قديم. أي أن هذا القرآن ليس إفكا قديما كما يدعون.. فلقد سبقه كتاب موسى، الذي هو إمام أي هدى يهتدى به الناس، ورحمة من اللّه إليهم.. وهذا القرآن هو مصدق لما في كتاب موسى، لينذر هؤلاء المشركين الذين ظلموا أنفسهم بالإعراض عنه، ويبشر المحسنين، الذين أحسنوا إلى أنفسهم بهذا الخير الذي ساقوه إليها من هذا الكتاب.
وفى قوله تعالى: {لِساناً عَرَبِيًّا} مقابلة لقوله تعالى عن كتاب موسى {إِماماً وَرَحْمَةً}.
أي أنه إذا كان كتاب موسى إماما ورحمة، فإن هذا للكتاب لسان عربى، ومن هذا اللسان العربي يتفجر ينابيع الهدى والرحمة.
وفى هذا تنويه باللسان العربي، من حيث هو لغة، فكيف إذا كان هذا اللسان يحمل آيات اللّه البينة، وكلمات اللّه المعجزة؟
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ}.
هو بيان للمحسنين، ولما يحمل إليهم القرآن الكريم من بشريات.
وقد جاء هذا البيان على تلك الصورة التقديرية المؤكدة، إظهارا لمزيد الاعتناء بهم والتنويه بشأنهم، وبشأن الجزاء الكريم الذي أعده اللّه سبحانه وتعالى لهم.. فالمحسنون، هم الذين قالوا ربنا اللّه، أي آمنوا به، ثم استقاموا على شريعة اللّه، فامتثلوا أوامره، واجتنبوا نواهيه.. فهؤلاء هم المحسنون، وهم الذين لا خوف عليهم مما يخيف أهل الشرك والضلال يوم القيامة، وهم الذين لا يحزنون يوم تمتلىء قلوب أهل الشرك والضلال حزنا وكمدا على ما فرطوا في جنب اللّه.. إنهم أصحاب الجنة لهم فيها دار الخلد، فلا يتحولون عنها أبدا، جزاء ما عملوا في دنياهم من طيبات.


{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)}.
التفسير:
قوله تعالى:
{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ، وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ}.
فى هاتين الآيتين مباحث:
أولا: مناسبتهما لما قبلهما:
وتبدو هذه المناسبة فيما تضمنته الآيات السابقة من الإشارة إلى القرآن الكريم، وأنه يحمل النذير بالعذاب إلى الذين ظلموا، والبشرى بالجنة والرضوان للذين آمنوا وأحسنوا.. ثم ما جاء بعد ذلك من تعقيب بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا...} وما في هذا التعقيب من بيان لما أعد اللّه للذين آمنوا واستقاموا من جزاء كريم في الآخرة، وأنهم أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ثم كان قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً..} دعوة مرافقة للدعوة إلى الإيمان باللّه، وإحسان العمل في سبيل مرضاته، وأن من الإحسان، الإحسان إلى الوالدين، فلن يكون الإنسان من المحسنين، إذا فاته الإحسان إلى أبويه.
وفى أكثر من موضع من القرآن الكريم، اقترن الأمر بطاعة اللّه، بطاعة الوالدين، والإحسان إليهما: {وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً} [23: الإسراء].. {وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [13- 14 لقمان].
وثانيا: المراد بالإنسان في قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً} أهو مطلق الإنسان أم هو إنسان بالذات؟.
أكثر المفسرين على أن هذه الآية نزلت في أبى بكر رضى اللّه عنه، وأنه هو الإنسان المقصود هنا. ومستندهم في هذا، أن أبا بكر رضى اللّه عنه، هو الذي آمن، وآمن معه والداه، أول الدعوة الإسلامية، وأنه- رضى اللّه عنه- كان في أول الدعوة الإسلامية في الأربعين من عمره، إذ كان- كما يقولون- أصغر سنّا من النبي- صلى اللّه عليه وسلم- بنحو عامين.
والذي نراه- ونرجو أن يكون صوابا- هو أن المراد بالإنسان، هو مطلق هذا الإنسان، الذي وصاه اللّه بوالديه إحسانا.. فهذه الوصاة بالإحسان إلى الوالدين موجهة إلى كل إنسان.. ولكن كما يتردد بعض الناس في قبول دعوة إلى اللّه إلى الإيمان به، أو يرفض هذه الدعوة- كذلك يتردد بعض الناس في امتثال أمر اللّه بالإحسان إلى الوالدين، أو لا يستجيب لهذه الدعوة أبدا.. وكما يتوب اللّه سبحانه وتعالى على العصاة ويتجاوز عن سيئاتهم، ويقبلهم في أهل الإيمان والإحسان، كذلك يقبل اللّه سبحانه من يراجع نفسه، ويقبل بالإحسان إلى والديه بعد أن فرّط وقصر.
ففى قوله تعالى: {حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ...} في هذا ما يشير إلى شيء من التقصير في حق الوالدين، وإلى مطاولة الزمن وعدم المبادرة بالإحسان إليهما منذ مطلع الصبا والشباب، حتى امتدّ هذا التفريط والتقصير إلى أن بلغ هذا الإنسان أشده، وبلغ أربعين سنة، حيث استوفى غاية ما يمكن أن يبلغه من سلامة إدراك، وحسن تقدير.. وعندها ثاب إلى رشده، وأقبل على والديه، يصلح من أمره معهما ما أفسده بتقصيره وتفريطه.. ثم هو في هذا الموقف، وقد بلغ من العمر أربعين سنة، ينظر إلى ذريته نظرة أبويه إليه، فيذكر فضلهما عليه، وإحسانهما إليه، وما يؤثرانه به من خير وبرّ، كما يؤثر هو ذريته من خيره وبره.. وهذا من شأنه أن يحرك عاطفته الجامدة نحو أبويه، ويؤدى ما قصر فيه من حقهما، كما يود أن يؤدى له أبناؤه ما يجب عليهما له من طاعة وولاء.
فالإنسان هنا، هو الإنسان الذي قصر في حق والديه، ثم عاد فأحسن صحبتهما، وأدى ما يجب عليه نحوهما.. وبهذا تقبل اللّه عنه أحسن ما عمل، وتجاوز عما كان منه من تقصير.. {أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ}.
ثالثا: في قوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا.
الآية} ما يدل على أن الآية السابقة ليست خيرا عن إنسان واحد بعينه، وإنما هى خبر عن كل إنسان كان على هذا الوصف من أبويه.. فرّط في حقهما، وقصر في الإحسان إليهما، ثم كانت منه توبة إلى اللّه، وإحسان إليهما.. وهذا مثل قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [70: الفرقان].
رابعا: من العبارات التي تحتاج إلى شرح:
قوله تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} أي حملته واجدة ما تكره من آلام الحمل والولادة، لا ما تكره من الحمل نفسه، فهى- مع هذه الآلام التي تجدها- حريصة على أن تحمل جنينها، وأن تتحمل هذه المكاره في سبيله.. فهى بهذا إنما ترضى طبيعة الأنثى فيها، وإن كانت تقاسى ما تقاسى من آلام في الحمل، وفى الوضع.
وقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} أي مدة حمله وفطامه ثلاثون شهرا.. وقد جمع بين مدة الحمل ومدة الفطام معا، للإشارة إلى أن الأمّ تعالى من المشقات وتتحمل من الآلام في مدة الرضاع والقيام على شئون وليدها، نفس المشقات والآلام التي كانت تعانيها وتحتملها أثناء الحمل والولادة، وإن اختلفت طعومها وألوانها.
قوله تعالى: {وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ}.
فى هذه الآية بيان للصنف الثاني من الأبناء، وهم الذين مضوا في عقوقهم لأبويهم إلى آخر أيام حياتهم، فلم يكن لهم عند بلوغهم غاية ما يبلغه الإنسان من كمال عقلى، وتوازن شعورى، بعد أن يبلغ أشده، وتذهب فورة الشباب، ويسكن جنون الصبا- لم يكن لهم عند هذا واعظ من أنفسهم، يعظهم، ويقيم وجوههم على الطريق القويم.
ثم إنه ليس الذي كان من عقوق هنا هو مجرّد التقصير في حق الأبوين، بل تجاوز هذا إلى العدوان عليهما، إذ يدعوانه إلى الخير، ويمدان إليه أيديهما بالإحسان، حين يطلبان إليه أن يؤمن باللّه، وأن يخرج من هذا الضلال الذي اشتمل عليه، وقاده إلى عذاب جهنم، فيلقاهما بهذا الردع والزجر، ويرمى في وجهيهما بهذه القولة الآثمة: {أُفٍّ لَكُما}!! وفى قوله تعالى: {أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي} استفهام إنكارى، ينكر به هذا الابن الضال العاق، على والديه أن يدعواه إلى الإيمان باللّه، وأن يحدثاه عن البعث والحياة بعد الموت، وأن هذا أمر لا يصدقه عقل، وقد مضت القرون، ولم يبعث الموتى من قبورهم.
فكيف يكون هناك بعث؟ ولو كان ذلك أمرا كائنا لبعث الذين ماتوا من آلاف السنين.. هذا هو منطق الضالّين الأغبياء! وقوله تعالى: {وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ.. إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ}.
إشارة إلى ما في قلب الوالدين من حرص على نجاة هذا الولد العاق، وإن رماهما بما يسوء من منكر القول.. إنه يقول لهما: {أُفٍّ لَكُما} وهما يستغيثان اللّه من أجله، ويطلبان من اللّه أن يهديه ويصلح أمره!.
قوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ}.
أي أن هذا الصف من الذين عقّوا آباءهم، وخرجوا عن طاعتهم، كما أنهم حادّوا اللّه، وحادوا عن طريق الهدى- هؤلاء قد حق عليهم القول، ووقعوا تحت حكم اللّه على أهل الضلال والكفر في الأمم السابقة من الجن والإنس.. وأولئك هم الخاسرون، الذين خسروا أنفسهم، فكانوا من أصحاب الجحيم.
هذا، ويقال إن هاتين الآيتين، نزلتا في عبد الرحمن بن أبى بكر، كما نزلت الآيتان السابقتان عليهما، في أبى بكر رضى اللّه عنه.
وهذا مردود لما يأنى:
أولا: لأن عبد الرحمن بن أبى بكر قد أسلم، وأنه لو صحّ منه هذا الموقف قبل إسلامه، لكان إسلامه دافعا عنه هذا الحكم الذي تضمنته الآية، والذي سلك أهله في سلك الفاسقين الذين حق عليهم القول، ولكان ثوب الإسلام الذي لبسه، ساترا له، إلى أن يلقى ربه بما هو عليه من عمل.
وثانيا: لأن أبا بكر- الذي قيل إن الآيتين السابقتين نزلتا فيه- قد كان من دعائه قوله: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي}.
فكيف يكون من أبى بكر هذا الدعاء، ثم يكون من ذريته من يفضحه اللّه بهذا الخزي على الملأ، ويلبسه ثوب جهنم في الدنيا؟ أيتفق هذا وما لأبى بكر عند اللّه من هذا المقام الكريم الذي سجله القرآن في أكثر من موضع؟
قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}.
أي ولكل من هذين الصنفين من الأبناء، درجاتهم ومنازلهم عند اللّه، بحسب أعمالهم، التي يوفون جزاءها بالحق، فيجزى أهل الإحسان بالإحسان، وأهل الإساءة بالإساءة،.. ولا يظلم ربك أحدا.
قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ}.
هو عرض لمشهد من مشاهد القيامة، يرى فيه الكافرون وقد وقفوا موقف الحساب، والمساءلة، على ما كان منهم في حياتهم الدنيا، من بغى، واستكبار في الأرض بغير الحق.
إن الكافرين والضالين، إذ يعرضون على النار في هذا اليوم، ويساقون إلى العذاب الأليم فيها، يقال لهم وهم على شفيرها: هذا جزاؤكم، فلقد أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا، واستمتعتم بها، ولم تدخروا منها شيئا لهذا اليوم.
لقد كانت معكم عقول تعقلون بها، وآذان تسمعون بها، وأعين تبصرون بها، فما استعملتم شيئا من هذا في سبيل التعرف على اللّه، والاهتداء إليه، بل صرفتم هذا كله إلى مواقع الكفر والضلال: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ} الذي تهدر فيه آدميتكم، وتذهب كرامتكم، فلا يكون لكم إلا الهوان والإذلال، إذ كنتم ولا عقل معكم، ولا سمع، ولا بصر! وهذا ما يشير إليه قوله تعالى في هذه السورة: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً، فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} (الآية: 26).
فالطيبات التي أذهبها الكافرون في حياتهم الدنيا، هى تلك القوى التي أودعها اللّه سبحانه وتعالى فيهم، من عقل، وسمع، وبصر، ونحوها مما يكون به الإنسان إنسانا، والتي يكشف بها مواقع الهدى والخير.. وقد عطل الكافرون هذه القوى، وأفسدوها حين صرفوها في وجوه الفساد، وفى اصطياد اللذات وجلب الشهوات.

1 | 2